>

رثاء الشعراء لأنفسهم !!

الرثاء من أهمِّ الأغراض الشعرية التي عالَجَها الشُّعَراء من الجاهلية حتى وقتنا الحاضر، وطبيعة هذا الغَرَض مُنسَجِمة تمامًا مع العوامل المؤثِّرة في الشُّعَراء، والتي تُحَفِّزهم إلى نظْم الشعر، فالحزن على فَقْدِ عزيزٍ يُمَزِّق نِياطَ القلب، والبكاء عليه يفجِّر ذلك الحزن المكبوت.



والعاطفة في الرثاء أصدق وأعمق من كثيرٍ من العواطف البشريَّة، وقد فاضَل المعرِّي بين عاطفة الحزن وبين عاطفة الفرح فقال:

إِنَّ حُزْنًا فِي سَاعَةِ الحُزْنِ أَضْعَا
فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ المِيلاَدِ

والشائع السائد لدى الشعراء أن يرثوا أقاربهم وأهليهم وأصدقاءهم وذوي الشأن من الناس، إلاَّ أنَّ نوعًا من الرثاء قلَّ الذين طرَقُوه، أو أن موتهم أعجَلَهم عنه، وطُول أمَلِهم بالحياة شغَلَهم عنه، ذاك هو رثاء النفس، فمَن أجدر برثاء الشاعر من نفسه؟! فإذا كان يَرثِي أحبابه فنفسه أحبُّ الأشياء إليه، وإذا كان يَرثِي أقاربه فهو أقرب الناس إلى نفسه... ومع ذلك فقليلٌ منهم مَن رثى نفسه، وإذا استعرضنا مَن رثوا أنفسهم قديمًا وجدناهم يُعَدُّون على أصابع اليد الواحدة، وكذلك الشعراء المعاصِرُون.

فمن أبرز وأشهر هؤلاء الشُّعَراء الذين رثوا أنفسهم مالكُ بن الريب صاحب اليائية المشهورة والتي مطلعها:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً
بِجَنْبِ الغَضَا أُزْجِي القِلاَصَ النَّوَاجِيَا

ويتحدَّث فيها عن هدايته إلى الإسلام، ومشاركته في الجهاد في سبيل الله حتى وصل إلى خراسان ومرو:
أَلَمْ تَرَنِي بِعْتُ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى
وَأَصْبَحْتُ فِي جَيْشِ ابْنِ عَفَّانَ غَازِيَا؟

وقد أُصِيب في إحدى المعارِك إصابة قاتلة، وأَيْقَن أنه ميت لا مَحالَة، فهاجَتْ نفسه وانطَلَق لسانه بأرقِّ شعرٍ فهو يُخاطِب صاحبيه:
أَيَا صَاحِبَيْ رَحْلِي دَنَا الْمَوْتُ فَانْزِلاَ
بِرَابِيَةٍ إِنِّي مُقِيمٌ لَيَالِيَا
وَقُومَا إِذَا مَا اسْتَلَّ رُوحِي فَهَيِّئَا
لِيَ السِّدْرَ وَالْأَكْفَانَ عِنْدَ فَنَائِيَا
وَخُطَّا بِأَطْرَافِ الأَسِنَّةِ مَضْجَعِي
وَرُدَّا عَلَى عَيْنَيَّ فَضْلَ رِدَائِيَا

فها هو ذا على فِراش الموت، وقد فاضَتْ رُوحُه إلى بارئها، وسكب في هذا المشهد كلَّ زَخَمِه العاطفي، فيطلب من أصحابه أن يتعامَلُوا معه بما هو به جدير، فليحفروا له قبره بالرِّماح لا بالمعاوِل؛ لتكون الوسائل التي قُتِل بها والتي دُفِن بها واحدة!

وإذا تذكَّر مَن يبكي عليه من الأهل فأين أهله؟ إنهم بعيدون، ومع ذلك فإذا وصلهم نعيُه تمزَّقوا حسرة عليه فهذه ابنته:
تَقُولُ ابْنَتِي لَمَّا رَأَتْ طُولَ رِحْلَتِي
سِفَارُكَ هَذَا تَارِكِي لاَ أَبَا لِيَا

وتلك أمُّه تبكي عليه وتتردَّد على قبره تسلِّم عليه وتُنادِيه فلا يُجِيب:
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ بَكَتْ أُمُّ مَالِكٍ
كَمَا كُنْتُ لَوْ صَاحُوا بِنَعْيِكَ بَاكِيَا
إِذَا مُتُّ فَاعْتَادِي القُبُورَ وَسَلِّمِي
عَلَى الرَّمْسِ أَسْقَيْتِ السَّحَابَ الغَوَادِيَا

ولأنَّ أهله جميعًا ستتفطَّر عليه أكبادهم وتتورَّم عيونهم، فهو يطلب من صاحبه أن يمنع راحلته من الوصول إلى دِيار بني مازن؛ لكيلا يحدث ذلك:
وَعَطِّلْ قَلُوصِي فِي الرِّكَابِ، فَإِنَّهَا
سَتَفْلُقُ أَكْبَادًا وَتُبْكِي بَواكِيَا

وإذا لم يسمع بكاء أمِّه ونَحِيب ابنته وسائر قريباته لبُعْدِهن، فإنه يجد حوله مَن يبكي عليه من أعزِّ رِفاقه، فهو فارس وأقرب الأشياء إليه وأحبُّها إليه وأكثرها تعلُّقًا به وافتِقادًا له وبكاء عليه هي:
تَذَكَّرْتُ مَنْ يَبْكِي عَلَيَّ فَلَمْ أَجِدْ
سِوَى السَّيْفِ وَالرُّمْحِ الرُّدَيْنِيِّ بَاكِيَا
وَأَشْقَرَ مَحْبُوكًا يَجُرُّ عِنَانَهُ
إِلَى الْمَاءِ لَمْ يَتْرُكْ لَهُ الْمَوْتُ سَاقِيَا

فالموقف عصيب، يُفَجِّر الحزن من الأعماق، ويَزِيده أوارًا ألاَّ يجد من أهله مَن يخفف من غُلَواء عاطفته؛ ولذلك اتَّجه إلى مُلازِميه في كلِّ معركة فاستذرف دموعهم، وما أجمل هذه الصورة الحزينة لحصانه القوي الضخم، وقد هَدَّه الأَسَى على فَقْدِ فارسه، يسحب عنانه على الأرض ليروي ظمأه بعد أن فَقَدَ مَن كان يسقيه، ويتساءَل مستغربًا من أصحابه الذين يدعون له بعدم البعد والفراق:
يَقُولُونَ لاَ تَبْعَدْ وَهُمْ يَدْفِنُونَنِي
وَأَيْنَ مَكَانُ البُعْدِ إِلاَّ مَكَانِيَا؟

فشاعرنا بكى بكلماته، وأبكى رفاقه، ومَزَّق قلوب ذَوِيه وأحزن قارِئيه، فكان بهذا أروع شاعر رثى نفسه.

وإذا قلَّبنا صفحات الأدب اللاحِقَة وجدنا شاعرًا عبَّاسيًّا مُقِلاًّ لم تروِ له كتب الأدب إلا أبياتًا، يَستعطِف فيها المعتصم للعفو عنه، إنه الشاعر تميم بن جميل الذي خرج وتمرَّد على الخليفة، وعندما أُلقِي عليه القبض أعطاه المعتصم فرصة الدفاع عن نفسه، فقال: يا أمير المؤمنين، لم يبقَ إلا عفوك أو انتقامك، وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إليك أولاهما بإمامتك، ثم قال:
أَرَى الْمَوْتَ بَيْنَ السَّيْفِ وَالنِّطْعِ كَامِنًا
يُلاَحِظُنِي مِنْ حَيْثُمَا أَتَلَفَّتُ
وَأَكْبَرُ ظَنِّي أَنَّكَ الْيَوْمَ قَاتِلِي
وَأَيُّ امْرِئٍ مِمَّا قَضَى اللهُ يُفْلِتُ؟

فهو مُوقِن بالموت جزاءً على ما قدَّم من تمرُّد وخروج على الخلافة؛ ولذلك فهو يُبرِز لنا أنه لا يَهاب الموت، وكيف يَهابُه وهو مَن هو جُرأة وإقدامًا؟! وكيف يفزع منه وهو مؤمن بقدر الله؟! فيقول:
وَمَا جَزَعِي مِنْ أَنْ أَمُوتَ، وَإِنَّنِي
لَأَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ شَيْءٌ مُؤَقَّتُ

إذًا هو جزع ولكن لا من الموت، إنما هو جزع على أهله صغارًا وكبارًا، وكيف ستكون حالتهم عندما يبلغهم خبر مقتله، ولذلك يبدأ بالحديث العاطفي الحزين الذي يدخل أبياته في رثاء النفس فيقول:
وَلِكِنَّ خَلْفِي صِبْيَةً قَدْ تَرَكْتُهُمْ
وَأَكْبَادُهُمْ مِنْ حَسْرَةٍ تَتَفَتَّتُ

فهو يبكي نفسَه من خلال تحسُّر أولاده الصِّغار، وتفتُّت أكبادهم ونواحهم عليه، وإشرافهم على الهلاك بسبب موته، إنه يبكي من خلال دموعهم ونحيبهم، ويربط سعادتهم وراحتهم بحياته، ويعلِّق موتهم على موته:
فَإِنْ عِشْتُ عَاشُوا خَافِضِينَ بِغِبْطَةٍ
أَذُودُ الرَّدَى عَنْهُ وَإِنْ مُتُّ مُوِّتُوا
فَكَمْ قَائِلٍ: لاَ يُبْعِدُ اللهُ رُوحَهُ
وَآخَرُ جَذْلاَنٌ يُسَرُّ وَيَشْمَتُ

وقد أثمر هذا الرثاء وأنتج؛ فعفا عنه المعتصم وقال له: غفرنا لك الصبوة وتركناك للصبية.

ونجد كذلك شاعرنا أبا فراس الحمداني، هذا الفارس الذي قارَع جيوش الروم، وأوْقَع فيهم حتى قال للدمستق الذي عيَّره بأن العرب أهل الشعر وليسوا أهل حرب:
أَتَزْعُمُ يَا ضَخْمَ اللَّغَادِيدِ أَنَّنَا
وَنَحْنُ أُسُودُ الحَرْبِ لاَ نَعْرِفُ الْحَرْبَا
فَوَيْلَكَ مَنْ أَرْدَى أَخَاكَ بِمَرْعَشٍ
وَجَلَّلَ ضَرْبًا وَجْهَ وَالِدِكَ العَضْبَا؟
لَقَدْ جَمَعَتْنَا الْحَرْبُ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ
فَكُنَّا بِهَا أُسْدًا وَكُنْتَ بِهَا كَلْبَا

هذا الشاعر المِغْوَار، الذي خلص من الأسر ونجا من القتل على أيدي الروم وقَع قتيلاً بسيوف بني أبيه بعد معركةٍ بينه وبين ابن أخته ابن سيف الدولة.

وأثخنَتْه الجراح، وعندما أيْقَن بأن قدَر الله آتٍ وأن أجله قد انتهى، توجَّه إلى ابنته برثاء نفسه، فقال:
أَبُنَيَّتِي لاَ تَجْزَعِي
كُلُّ الأَنَامِ إِلَى ذَهَابْ
أَبُنَيَّتِي صَبْرًا جَمِي
لاً لِلْجَلِيلِ مِنَ المُصَابْ
قُولِي إِذَا نَادَيْتِنِي
وَعَيِيتِ عَنْ رَدِّ الْجَوَابْ
زَيْنُ الشَّبَابِ أَبُو فِرَا
سٍ لَمْ يُمَتَّعْ بِالشَّبَابْ

فهو إذًا يبكي نفسه على لسان ابنته وبدموعها، فيُقَوِّلها ما يريد أن يقوله هو، إنه يُعَبِّر عن عواطفه وأحزانه بالحديث عن انفعالات ابنته عندما تتأكَّد من موته، وها هو يتحسَّر لأنه لم يتمتَّع بشبابه، فقد أمضى قسمًا منه أسيرًا عند الروم يتجرَّع غُصَص الآلام والغربة، وها هو ذا يهوي مثخَنًا بجراحة القاتلة، ليموت في عزِّ شبابه.

وأمَّا حديثًا فقد كَثُر حديث الشعراء عن معاناتهم من الأمراض القاتلة، ولعلَّ المرض الطويل الميئوس من الشفاء منه هو الذي يُحَفِّز بعض الشعراء إلى استشراف ما بعد الموت، وسكب العواطف الحزينة مع آهات المرض.

فها هو الدكتور مصطفى السباعي، العالِم المسلِم والقائد الفذُّ، قد أقعده مرض الشلل سنوات وتضافَرَتْ عليه أمراض أخرى، فنظَم وهو على فراش المرض قصيدةً يستعرض فيها آلامَه وأحزانه على الآخرين؛ من أولادٍ صغار، وأم تنهار لمصاب ولدها، وزوجة وجِيران؛ فيقول:
أَهَاجَكِ الْوَجْدُ أَمْ شَاقَتْكِ آثَارُ
كَانَتْ مَغَانِيَ، نِعْمَ الأَهْلُ وَالدَّارُ
وَمَا لِعَيْنِكِ تَبْكِي حُرْقَةً وَأَسًى؟
وَمَا لِقَلْبِكِ قَدْ ضَجَّتْ بِهِ النَّارُ؟
عَلَى الأَحِبَّةِ تَبْكِي أَمْ عَلَى طَلَلٍ؟
لَمْ يَبْقَ فِيهِ أَحِبَّاءٌ وَسُمَّارُ

فهو إذًا يبكي ولكن على مَن سيفارقهم، كما أنهم سيبكون عليه:
وَإِنَّمَا حَزَنِي فِي صِبْيَةٍ دَرَجُوا
غُفْلٌ عَنِ الشَّرِّ لَمْ تُوقَدْ لَهُمْ نَارُ
بِاللهِ يَا صِبْيَتِي لاَ تَهْلِكُوا جَزَعًا
عَلَى أَبِيكُمْ طَرِيقُ الْمَوْتِ أَقْدَارُ

ثم يعدِّد الآخَرين الذين سيبكون عليه وينهارون ويتلوَّعون عليه، ويختم قصيدته الباكية بقوله:
الْمُلْتَقَى فِي جِنَانِ الْخُلْدِ إِنْ قُبِلَتْ
مِنَّا صَلاَةٌ وَطَاعَاتٌ وَأَذْكَارُ

وهناك شاعر آخَر هو الشاعر السعودي محمد حسن فقي، يرى بعض النقَّاد أنه يرثي نفسه في قصيدةٍ له، والقصيدة تحمل في طيَّاتها الحزن والمرارة والرثاء، ولكنها أقرب إلى فلسفة الرثاء منها إلى رثاء النفس؛ فهو يرى أن الموت راحة ونعيم وخلاص من نكد الدنيا وشقائها، فالخارج منها (موتًا) سالم، والباقي فيها جدير بالبكاء عليه والرثاء لحاله، فهو إن بكى على نفسه وعلى نفوس الآخرين فلأنهم ما زالوا أحياء، ولم يسعدوا بلقاء الموت فهو يقول:
مَقْبَرَتِي يَبْكِي الْوَرَى غَفْلَةً
مَوْتَاهُمُ مِثْلِي فَيَا لِلْغَبَاءْ
وَكَيْفَ يَبْكِي مَنْ عَدَاهُ الرَّدَى
مَنْ نَالَهُ؟ كَيْفَ اسْتَحَقَّ البُكَاءْ؟
أَيُّهُمَا أَوْلَى بِهَذَا الأَسَى
يَنْصَبُّ فِي الدَّمْعِ وَهَذَا الرِّثَاءْ؟
هَلْ هُوَ هَذَا الْمَيْتُ رَهْنَ الْبِلَى
أَمْ هُوَ هَذَا الْحَيُّ رَهْنَ الشِّقَاءْ

فهو إذًا يرى أن الجديرين بالبكاء والرِّثاء هم الأحياء الذين قيَّدهم الشقاء، وليسوا أولئك الموتى الذين بليت أجسادهم، واستراحوا من هموم الدنيا ونكد العيش.


الكاتب: ذ. صدقي البيك


0 التعليقات:

جميع الحقوق محفوظة مدونة السعيد وعزوز           تعريب مدونة البلوقر